عادت به الذكرى ليومٍ كان فيه فتياً يتنفس رياح الصبا الباردة العذبة..
لم تزحزح ثباته أعاصير المحن..ولم تزلزل قدمه رياح الفتن...
كان يرى للحياة طعماً.. وللألم وجداً..
هاله منظره المتهالك.. وهو يرى تلك النفس الكهلة
ملتحفة بعباءة الأمنيات المهترئة..
يراوح بين قدميه وقوفاً يستجدي دنياه.. بات يرتقب سقوطاً وشيكاً..
أن تعود من َحيث ُبدأتَ- بعدما قطعت شوطاً كبيراً-تلك مصيبة!!!
كنتَ تتوهم سيراً.. غرّك سيرك الحثيث وأنفاسك المتلاحقة...
زينت لك نفسك جمال خطوك... ووقع قدمك... فمضيت َ تغذ الخطا لاتلوي على شيء
ها أنت قد قاربت النهاية.. وشارفت على ديار القوم...
في آخر الطريق..
تمهّل!!! لحظة!!!!
لوحة مكتوبة بخطٍ أحمر
عفواً.... !!!!! لقد أخطأت الطريق!!!
في منتصف الطريق التقيا.. تعاهدا على المضي في الطريق مهما كان شائكاً وعراً..
كان كل منهما ينسج من شدو الآخر أهزوجة يقطِّع بها مساءه الحالك..
وكان ليلهما الحزين يمضي سريعاً يطوي آلامهما.. مرتقباً فجراً آمل...
ومرت أيام وأيام.. وهما كذلك...
في يومٍ ما.. سقط من التاريخ.. سمع أحدهما أصواتاً في الجهة الأخرى من العالم فتتبع الصوت
وراق له.. وبات يرقبه في كل يوم...
وأقبل المساء... ليسمع صوته رفيقه
فغدا في أذنه نشازاً
فأغلق أذنيه.. وأغمض عينيه..
وقدم مساءهُ الموعود.. فبدأ نسجاً لأهزوجته القديمة.. فتقطع صوته نشازاً..
انزعج منه وتألم.. فتوقف عن ترقب فجره الموعود. وغطّ في نومٍ عميق..
كان يحسن.. لغة يهمس بها للكون من حوله، حينما يعيش صفاء نفس..
يضحكُ للقمر.. ويتلقى شعاع الشمس محتضناً..
ويناجيه صوت الماء الرقراق حين ينساب سريعاً في مجراه يسابق الزمن،
فيهمس له بسر.. تنفرج أسارير روحه له..
ويستوقفه نسيماً عذباًيمرّ به في طريقه فيتعثر به... فيداعبه ويضاحكه..
ويلقي له برسالة حب.. يفكّ رموزها.. وتسرُّ نفسه المثقلة بالهموم.. فتمضي في طريقها
لاتتوقف.. ولاتُحدِّث نفسها بوقوف...
أمّا الآن..
فقد طال وقوفه على أطلال نفسه الآسنة.... حاول أن يتكلم بكل اللغات التي كان يحسنها.. ليوصل رسالته إلى أحبته...
تاهت رسالته عبر الأثير...
ولم يحملها ساعي البريد..
كي تبني عالياً.. لابد أن تحفر عميقاً...
حملتها نسائم عذبة عبر الأثير لتزلزل بنيانه..
وتهدّ أركانه الآيلة سقوطاً..
هزته من الداخل..
هالته تلك الصورة التي بدت ماثلة أمامه تلومه وتعاتبه..
فتاهت نفسه المعذبة بين العلو والدنو..
بين أعالي الجبال.. وعميق الحفر..
تردد.. وتألم.. وعاتب نفسه كثيراً..
اختنق.. فارتفع ببصره إلى السماء يبحث عن هواء نقي ينساب إلي روحه المحترقة
فازداد اختناقاً.. واحتراقاً.. وألفى الكون نيراناً مستعرة.. تعبث الريح بها لتزحف
بالدخان إلى روحه... فتغشاه ظلمة واختناقاً..
سحبٌ سوداء مرت بطيئة... زاد اختناقه.. وكاد يلفظ أنفاسه.. بإدراك بقية حياة..
رفع بصره المكلوم إلى السماء مرة أخرى آملاً بانقشاع...
فإذا بسحبه قد تدافعت بعيداً عن سماء نفسه.. يدفع بعضها بعضاً..
رأى ذلك الجبل الأشمّ... الذي ضلّ طريقه.. يومي إليه..
نظر إلى قدميه المعفرتين بالتراب...
. فتذكر كم غارت في سفول.. !!!
راوح بين قدميه.... وبين ذلك الجبل الذي يناديه....
مضى مسرعاً.. نحو ذلك الجبل الأشمّ. لم يستوقفه شيء....
الأجواء الخانقة كانت تزهق روحه.. فيفر ّ منها دونما تفكير،
باحثاً عن نقاء.. وفضاء
كان يرى الأسر والقيد.. أن يُمضي ساعات من عمره في حبس كهذا الحبس القسري
بين أسوار الأنفاس الملوثة... والملونة..
جرّب أن يخرق العادة.. فهو يحب المغامرات والبطولات...
اقترب من تلك الأنفاس.. تصاعدت أبخرة من حوله ملونة.. هالته تلك الألوان..
زاغ بصره.. هذا أحمر قانٍ.. وذلك أصفر فاقع يسر الروح.. وذلك قرمزي.. وهذا..
وذاك.. دارت به رأسه..
ومضت الأيام.. وأصبحت تلك الألوان لوناً واحداً هو لون أنفاسهم الملوثة..
لون الدخان الرمادي المائل إلى سواد..
أدمن أنفاسهم.. وغشته أبخرة أرواحهم المحترقة من لهاث..
اجترّ تلك الأنفاس الملوثة من صدورهم لينقذهم من هلكة.....
غرق المسكين... وشرق.. ومات... ومازالت صوت ضحكاتهم تعلو
وتعلو..... ودخان أنفاسهم قد عجّ في المكان فحجب وجوههم.. واختفت صورته خلف تلك السحب السوداء..