الجنـــون
عنوان الموضوع "الجنــون"
يبدو غريبا نوعا ما، ولكنها شطحات العقل لما يختلجه بعض الجنون أو الجنون لما يمسه
بعض الجد والعقل ولا بد مما ليس منه بد.
إن الجنون، يا إخوتي في التدوين، نعمة محسود فيها كثير من بني البشر...لحظات
سريعة وامضة تمر فيها الابتسامة من
غير جمركة...نعمة ليست متأتية للكل ولا يعرف قيمتها إلا من جربها أولا ثم افتقدها.
والجنون درجات ومراتب وفنون وأراه نوع من الثورة على
العقل، فالعاقل، أو من يعتبر نفسه كذلك على الأقل،
يبحث عن حفنة جنون ترفق من حالة
عقله الفائض.
هناك شعرة رقيقة جدا تفصل بين العبقرية
والجنون. فالمجنون لا
يحب ولا يستأنس
إلا لمن يجد لديه حفنة عقل وجد تغفر لجنونه كثرة الجنون وتحميه من فلتان العقل. وقد يكون
الجنون أحيانا عظمة إذا لم يكن المجنون
مجنونا إلا في عيون المجانين أو قد يكون
مرفأ نستكين
على
أهدابه حين تثور أمواج الحنين. وهو أيضا دنيا من الأوهام
التي يمكن أن يعيش داخلها المجنون العاقل لما تنقلب الموازين.
مثلما أن المرض يحيط بالصحة من كل الجهات
فان الجنون يحيط بالعقل من كل الجهات أيضا. فالجنون فيما يبدو حالة غامضة كالحياة والموت، تستطيع أن تعرف الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من
الخارج، أما من الباطن والجوهر فسر مغلق وطلسم مبهم. وهو عالم أثيري عجيب، مليء بالضباب، تتخايل لعينيك فيه وجوه لا تتضح معالمها، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصاً من نور
الذاكرة ولّت هاربة فابتلعتها الظلمة. وتجيء أذنيك منه أحياناً ما يشبه الهمهمة وما إن ترهف السمع لتميّز مواقعها حتى تفر متراجعة صمتاً
وحيرة. فتضيع تلك الفترة السحرية من الجنون بما حفلت من لذة وألم. فيقف وعيك حيال ذكرياتها ذاهلاً حائراً حيرة العقلاء جميعاً لا يذكر من أمرها شيئاً تطمئن إليه النفس ويرتاح
إليها البال.
منذ قديم الأزمان كان الناس يعتقدون
بأن
هناك علاقة بين العبقرية والجنون. وكانوا دائما يتحدثون عن العبقري بشيء من
التهيب
والوجل، فهو شخص غريب الأطوار معقد الشخصية يختلف عن جميع البشر، والواقع
أننا
إذا ما استعرضنا أسماء كبارا لكتاب وجدنا أن معظمهم -إن لم يكن كلهم- كانوا يتميزون بتركيبة نفسية خاصة وغير طبيعية بل
إن بعضهم دخل في مرحلة الجنون الكامل.
ولله في خلقه
شؤون، والحمد لله على نعمة العقل، والحمد لله على فترات فلتان العقل، والحمد لله
على كل حال وفي جميع الأحوال.